يبحث السيّد دوغلاس مارتن في هذه المقالة التي ظهرَت في العدد الخامس من مجلّد العالم البهائي
الّذي تمّ نشره سنة 1994، في دعوة حضرة الباب من ناحية أثره على الكتّاب الغربيّين خلال تلك الحقبة وتأثيره اللاحق.
تُصادف سنة 1994 الذكرى المائة والخمسون لإعلان دعوة حضرة الباب (السيّد علي محمّد 1819 -1850)، وهو أحد المؤسِّسَين للدّين البهائي. وتستدعي هذه المناسبة محاولة إلقاء نظرة عامّة على الآثار التاريخيّة العظيمة الّتي تدفّقت من حدثٍ لم يحظى باهتمام كبير في ذلك الوقت وكان خارج إطار مجتمع ناءٍ ومتهالك.
كان النصف الأوّل من القرن التاسع عشر فترة ترقّب عودة المسيح في العالم الإسلامي، كما كان الحال في العديد من أنحاء العالم المسيحي. وانتشرت في بلاد فارس موجة الحماس والاهتمام بآخر الزمان الّتي أثّرت في العديدين من أبناء الطبقة المتعلّمة الدينيّة في المجتمع الشيعي المسلم، مركّزين على الاعتقاد بقُرب تحقّق نبوءات القرآن الكريم والأحاديث النبويّة. وفي ليلة 22-23 مايو/أيّار 1844، أعلن حضرة الباب إلى أحد الباحثين المتّقدين حماسًا بأنّه يحمل رسالة إلهيّة مقدَّر لها ليس فقط أن تحوّل الإسلام ولكن أن ترسم1 مساراً جديداً للحياة الروحانيّة للبشريّة.
خلال العقد اللاحق، نتج عن المعارضة المتصاعدة من كلّ من رجال الدّين والدّولة استشهاد حضرة الباب، وقتل تلاميذه البارزين وعدّة آلاف من أتباعه، وتقريبًا إطفاء شعلة النظام الديني الّذي أسّسه. ولكن، وعلى أثر هذه السنوات المُريعة، ظهرت حرَكَة وريثة، وهي الدّين البهائي، الّذي انتشر منذئذٍ في أنحاء العالم وأسّس نداءه بأنّه يمثّل دينًا عالميّاً مستقلاً جديداً.
تنظر الجامعة البهائيّة في العالم إلى حضرة بهاءالله (ميرزا حسين علي، 1817 – 1892) كمصدر لتعاليمها الروحانيّة والاجتماعيّة، وكمنظّم للتشريعات والمؤسّسات الّتي تشكّل حياتها، وكواضع لرؤية الوحدة والاتّحاد الّتي جعلتها اليوم واحدة من أكثر الكيانات المنَظَّمة انتشاراً وتنوّعاً على الكوكب الأرضيّ. يستمدّ الدّين إسمه من حضرة بهاءالله ويتوجّه ملايين البهائيين في أنحاء العالم بأفكارهم عندما يولون وجوههم إلى اللّه أثناء الصلاة إلى المكان الّذي ووري فيه جثمانه في الأرض الأقدس.
ولكن، لا تقلّل هذه التفاصيل من حقيقة أنّ الدّين الجديد ولِد وسَط أجواء دمويّة ومريعة أحاطت برسالة حضرة الباب القصيرة، ولا من حقيقة أنّ روح التضيحة الّتي استشعرها البهائيّون في حياته وحياة مجموعة الأبطال الّذين اتّبعوه هي الّتي ألهمت انتشاره العالميّ. إنّ الأدعية الّتي أنزلها حضرة الباب والمقتطفات من كتاباته الغزيرة هي جزء من الحياة التعبّديّة للبهائيّين في كلّ مكان. ويتمّ إحياء ذكرى الأحداث الّتي رافقت رسالته كأيّام محرَّمة في عشرات الآلاف من الجامعات البهائيّة المحلّيّة. على منحدر جبل الكرمل، 2يهيمن المقام ذو القبّة الذهبيّة الّذي يحتضن جثمانه الأرضيّ على مجموعة المباني والحدائق الضخمة الّتي تشكّل المركز الإداري لنشاطات أمر الله العالميّة.
في الواقع، فإنّ البهائيّين أيضًا واجهوا تحدّيًا بمضامين الفكرة الاستثنائيّة بأنّ عصرنا شهِد ظهور مظهَرين إلهيّين متزامنَين تقريبًا. وقد وضّح حضرة بهاء اللّه هذه الظاهرة كواحدة من السِّمات المميّزة للدّين الجديد وكسِرّ محوريّ للخطّة الإلهيّة لتوحيد الجنس البشري وتأسيس الحضارة العالميّة.3
هناك تشبيه يرِد في كتابات كلٍّ من حضرة الباب وحضرة بهاءالله، وهو أساسيّ للمفهوم البهائي حول تطوّر الحضارة. فهو يوازي بين عمليّة التطوّر الحضاري التدريجي للجنس البشري وبين العمليّة الّتي يجتاز من خلالها كلّ فرد من أفرادها المراحل المتعاقبة من الطفولة، والمراهقة، والبلوغ. وتلقي الفكرة الضوء على العلاقة الّتي يراها البهائيّون بين رسالتَي مؤسّسَيْ الدّينَين الإلهيّين.
يوضّح حضرة الباب ضمنيًا، وحضرة بهاءالله بوضوح بأنّ الجنس البشريّ يقف الآن على مشارف نضجه الجماعيّ. وبعيدًا عن دور حضرة الباب كرسول من الله، فإنّ مجيئه يرمز إلى نضج عمليّة تهذيب الطبيعة البشريّة الّتي صقَلتها الهداية الإلهيّة على مرّ آلاف السّنين. ويمكن النّظر إليها، بهذا المعنى، كبوّابة يجب أن تجتازها البشريّة وهي تحمل مسؤوليّات النضُج والبلوغ. يبدو أنّ قِصر مدّة الدّعوة بحدّ ذاته يرمز إلى السرعة النسبيّة للتحوّل. 4
على المستوى الفردي، ما إن يجتاز الفرد عتبة النضوج الهامّة في تطوّره، فإنّه يستقبل تحدّيات وفُرص البلوغ. فقابليّات الحياة الإنسانيّة الآخذة في الظهور يجب أن تجد تعبيرًا لها من خلال سنوات طويلة من المسؤوليّة والإنجاز. يجب أن تتحقّق من خلال الزواج، والمهنة والعائلة، وخدمة المجتمع. في الحياة الجماعيّة للبشريّة، هي رسالة حضرة بهاءالله، المظهر الإلهيّ الكلّي الّذي بشّرت بمجيئه كافّة الكتب الإلهية في العالم.
ولكن حتّى مع أواخر القرن التاسع عشر، كان حضرة الباب هو مَن كان يُنظَر له على أنّه الشخصيّة المركزيّة للدّين الجديد فيما بين معظم أولئك الغربيّين الّذين علِموا بوجوده. وقد كتب الناقد الأدبيّ الفرنسيّ جولز بويس Jules Bois ذاكرًا في المجلّة الأمريكيّة فورَم Forum
سنة 1925 حول الأثر العظيم الّذي كانت لا تزال قصّة حضرة الباب تتركه على الرأيّ المستنير في أوروبا مع نهايات القرن التاسع عشر:
لقد تحرّكت أوروبا كلّها عطفاً وسخطًا...وبين أدباء هذا الجيل في باريس سنة 1890م، لا زال استشهاد الباب من الموضوعات الجديدة تماماً كما كان يوم تلقّت باريس نبأ موته لأوّل مرّة. لقد نظّمنا فيه الشّعر، وألحّت سارة برنارد على كاتل منديس أن يكتب مسرحيّة تركّز على هذه المأساة التاريخيّة.5
لقد تأثّرت مجموعة متنوّعة من الأدباء مثل جوزيف آرثر دجابينو، وإدوارد جرانفيل براون، وإيرنست رينان، وألكساندر تومانسكي، و أ.ل. م. نيكولاس، وفيكتور روزين، وكليمنت هارت، وجورج كورزون، وماثيو أرنولد، وليو تولستوي بالمأساة الروحانيّة الّتي حدثت في بلاد فارس في منتصف القرن التاسع عشر. ولم يحدث حتّى السنوات الأولى من قرننا هذا أن حلّت تسمية الدّين البهائي
، الّتي تبنّاها الدّين الجديد لنفسه في الستينيّات من القرن التاسع عشر مكان الحركة البابيّة
في الاستخدام العامّ في الغرب.6
وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا يعكس الدرجة الّتي يبدو فيها أنّ حياة حضرة الباب الوجيزة ولكن المتّقدة واكبَت وجسَّدت المُثل الثقافيّة الّتي سادت الفكر الأوروبي خلال النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، والّتي مارست تأثيرًا قويّاً على الخيال الغربي لعدّة قرون لاحقة. إنّ المفهوم الشائع استخدامه الّذي يصف مسار التطوّر الثقافي والفكري الأوروبي خلال الخمسة أو ستّة عقود من القرن التاسع عشر هو الرومانتيكيّة
. مع بداية القرن، بدأ الفِكر الأوروبي في البحث فيما هو أبعد من اهتمامه بالعقلانيّة المجرّدة والحقائق الميكانيكيّة للتنوير إلى استكشاف أبعاد أخرى من الوجود: البُعد الجمالي، والبُعد العاطفي، والبُعد الحَدَسي، والبُعد الباطني، والبُعد الطبيعي، والبُعد غير العقلاني. وقد تجاوب الأدب، والتاريخ، والفلسفة، والموسيقى، والفن بقوّة ومارست تدريجيًا تأثيرًا إيجابيًا على العقل العامّ.
في إنجلترا، حيث كان الاتجاه يستجمع القوى مع بداية القرن، ظهرت إحدى التأثيرات بإنتاج ما ربّما يمثِّل أروع تدفّق للشِعر الغنائي عرفَته اللغة في تاريخها. وعلى مرّ العقدين إلى ثلاثة عقود التالية لاقت هذه البصائر المُبكرة صدىً قويًا في غرب أوروبا. وكان نظام جديد للأمور، وعالم جديد، متاحٌ للوصول إليه، إذا ما كانت هناك فقط إرادة لما هو مطلوب. متحرّرين من التقلّبات الفكريّة للعقود السابقة، كان ينظر الشعراء، والفنّانون، والموسيقيّون إلى أنفسهم كصوت لقدرات إبداعيّة هائلة كامنة في الوعي الإنساني وتبحث عن تعبير لها، مثل أنبياء
يشكّلون نظرة جيدة عن الطبيعة الإنسانيّة والمجتمع الإنساني. مع تزايد الشكّوك حول شرعيّة الدّين التقليدي، تمّ استحضار شخصيّات وأحداث من الماضيّ الكلاسيكي لتخدم كأدوات لهذه المُثل البطوليّة:
أن تعاني آلامًا يراها الأمل لا متناهية،
أن تسامح أخطاءً أحلك من ظلمة الليل ومن الموت،
أن تتحدّى قوّة تبدو هائلة عظيمة،
أن تحبّ، وأن تحتمل، وأن تأمَل، حتّى يصنع الأمل
من حطامه الشيء الّذي يعتزم القيام به...
هذه فقط هي الحياة، والسعادة، والحضارة، والنّصر.7
نفس هذا التّوق ثارَ في أميريكا في العقود القريبة الّتي سبقت الحرب الأهليّة وتركت آثارًا لا تُمحى على الوعي العامّ. تأثّر جميع أصحاب الفِكر المتعالي transcendentalists
بالأدب الشعريّ الباطني للشرق: البهاجيفاد جيتا Bhagavad Gita، والريمايانا Ramayana، والأوبانيشادس Upanishads، إضافة إلى أعمال الشعراء الإسلامييّن الكِبار أمثال رومي، وحافظ، وسعدي. ويمكن ملاحظة التأثير في الكتابات المؤثِّرة لإميرسون Emerson مثل خطاب المدرسة اللاهوتيّة:
أتطلّع إلى السّاعة الّتي يتكلّم فيها في الغرب أيضاً ذلك الجمال الأعلى الّذي خطف قلوب أولئك الرجال الشرقيّين، وخاصّةً اليهود منهم، وعبر شفاههم نطق بالوحي لكافّة العصور...أتطلّع إلى المعلّم الجديد الّذي يعقب تلك التعاليم اللامعة ويشهد تحقّقها...ويرى العالم مرآةً للرّوح، ويشهد مطابقة قانون الجذب مع نقاء القلب، ويُظهر..أن الواجب متطابق مع العلم والجمال والسّرور.8
مع انقضاء سنوات القرن، وجدت التفاؤليّة الرومانسيّة Romantic optimism نفسها غارقة بشكلٍ متزايد في خيبات الأمل المتلاحقة وهزائم الحماس الثوري الّذي ساعدت على نهوضه. وتحت ضغط التغيير العلمي والتكنولوجي، تدعّمَت تدريجياً ثقافة الماديّة الفلسفيّة الّتي في الأساس ساعد على نهوضها الفِكر التنويريّ. وساهمت الحروب والاضطرابات الثوريّة في منتصف القرن بدرجة أكبر في تعزيز الأجواء الواقعيّة
، وهو إدراك بأن الأفكار العظيمة يجب توفيقها بشكلٍ ما مع الظروف القاسية للطبيعة الإنسانيّة.
ولكن حتّى في الأجواء الرّصينة للحِوار الفكتوري العامّ، حافظ الحنين الرومانسي على تأثيره في الوعي الغربيّ. وخلق استعداداً للتدفقات الروحانيّة، الّتي بينما تختلف عن تلك الّتي سادت في العقود الأولى من القرن، ساهمت الآن في التأثير على الجمهور الواسع. إذا لم تعد الشخصيّة الثوريّة الرمزيّة لبروميثيوس Prometheus تخاطب المدارك الإنجليزيّة لذلك العصر، فإنّ الأسطورة اللوثريّة التقطت الآمال الشعبيّة، مازجاً المثاليّة الشبابيّة مع بصائر النضج والبلوغ، وآسرًا خيال الملايين تماماً بسبب ذلك الظرف
مع اطَلاع الغربيين في السنوات الأخيرة من القرن على قصّة حضرة الباب، ليس مُستَغربًا أن تُفتَتن عقول تشكلّت في هذا الوسط الثقافي بسِحر شخصيّة حضرته. وكان جاذبًا بشكلٍ خاصّ طهارة حياته، ونبُل شخصيّته التي كسبت قلوب العديدين من أبناء بلده الّذين كانوا مشكّكين به وحتّى أعداء له وأصبحوا مستعدّين للتضحية بأرواحهم فداءً لدينه. تبيّن الكلمات الّتي خاطب بها الباب أوّل مجموعة من أتباعه طبيعة المعايير الأخلاقيّة الّتي رفعها كأهداف لأولئك الّذين يستجيبون لندائه:
فاغسلوا قلوبكم عن أدران الشهوات واجعلوا زينتكم فضائل الملأ الأعلى...فقد انتهت الأيام التي كانت فيها العبادة المقرونة بالكسل والفتور كافية. والآن قد أتى الوقت الذي لا تصعد فيه الأعمال إلى عرشه الأعلى إلا إذا كانت طاهرة نقية ولا تكون مقبولة لديه إلاّ إذا كانت خالية من أثر الدنس...فتضرعوا إلى الله أن لا تعوقكم الشؤون الأرضية ولا الشهوات الدنيوية وأن لا تعكر شؤون الخلق صفو ذلك الفضل الذي يجري فيكم أو تقلب حلاوته بمرارة.9
هكذا كان المجتمع الّذي دعاه حضرة الباب للتأمّل والانضباط الذاتيّ. لقد انبثق فجر جديد، وكان النداء الإلهي إلى صفاء القلوب لا إلى صِيَغ دينيّة، وهي حالة وجدانيّة يجب أن ترتبط بطهارة كافّة جوانب الحياة اليوميّة، ويكون الصدق هدفًا يتحقّق ليس بالتقليد الأعمى ولكن بالجهد الشخصي والدعاء والتأمّل والإنقطاع عن الشهوات. ويمكن تقدير مضامين القصص الّتي سمعها لاحقًا الكتّاب الغربيّون مثلجيبون، وبراون، ونيكولاسمن أتباع حضرة الباب النّاجين، من الكلمات الّتي وصف بها الملاّ حسين بشروئي الأثر الّذي تركه لقاؤه الأوّل مع حضرة الباب:لقد شعرت بقوة وشجاعة خيّل إليّ معهما أنني أستطيع أن أقف وحيدًا لا أتزعزع في وجه العالم كله بكل شعوبه وحكامه. وبدا لي أن الكون لا يزيد على حفنة من التراب في يدي. وحسبت أنني صوت جبريل المتجسّد يهيب بالناس جميعًا أنأفيقوا فإن نور الصبح قد لاح.10
سيساعد هذا الإطار التاريخي في فهم جوهر تعاليم حضرة الباب. فرسالته واضحة جداً، وقد أكّد حضرته مرارًا وتكرارًا بأنّ هدف رسالته ومساعيه كان الإعلان عن قُرب مجيء مَن يظهره الله
، المظهر الإلهي الكلّي الموعود في الكتب المقدّسة على مرّ أزمان التاريخ الإنساني. وفي الواقع، فإنّ كافّة الأحكام الّتي أنزلها حضرة الباب كانت تهدف ببساطة إلى إعداد أتباعه لمعرفة وخدمة الموعود في وقت ظهوره:
لقد أنبتنا حديقةالبيان(أي ظهوره) بإسم مَن يظهره الله، وأسبغنا عليكم نعمة الوجود فيها إلى وقت مجيئه.11
جاءت دعوة حضرة الباب لإعداد البشريّة لمجيء عصر تحوّل يتجاوز كلّ ما يمكن للجيل الّذي عرفه أن يفهمه. كان واجبهم تطهير قلوبهم ليتمكّنوا من معرفة الموعود الّذي كان العالم بأجمعه ينتظرونه، وخدمة تأسيس ملكوت الله. وبذلك، كان حضرة الباب هو البوّابة
الّتي يظهر من خلالها هذا التجلّي الإلهي المُنتَظر طويلاً
ظهرت الإشارات الأوّليّة للموعود المنتَظر في أوّل كتاب رئيسيّ لحضرة الباب وهو قيّوم الأسماء
والّذي نزلت مقتطفات منه في ليلة إعلان دعوته. الكتاب هو مجموعة من الملاحظات على سورة يوسف
في القرآن الكريم، والّتي يفسّرها حضرة الباب على أنّها تبشّر بمجيء يوسف
الإلهيّ، بقيّة الله
، الّذي سيحقّق نبوءات القرآن وجميع الكتب المقدّسة السّابقة. وأكثر من أّيّ كتابٍ آخر، برهن قيّوم الأسماء
للبابيّين على النداءات المقدّسة لمنزِله وكان، في الفترة الأولى من ولاية حضرة الباب، بمثابة القرآن أو الإنجيل للمسلمين أو المسيحيّين.
إحدى سِمات كتابات حضرة الباب الّتي يمكن ملاحظتها بسهولة نسبيّة هي الأحكام الّتي تتضمنها. فقد أنزل حضرة الباب، ما يبدو للوهلة الأولى، العناصر الأساسيّة لنظام كامل من الأحكام الخاصّة بمسائل الحياة اليوميّة والنظام الإجتماعي. والسؤال الّذي يخطر فورًا على بال أيّ قارئ غربي لديه اطّلاع بسيط على التاريخ البابي هو صعوبة التوفيق مابين مجموعة الأحكام هذه، الّتي باتّساعها ومداها كان من الممكن أن تسود لعدّة قرون، مع نبوءة حضرة الباب المتكرّرة بأنّ من يظهره الله
سيظهر قريبًا ويؤسّس ملكوت الله. بينما لم يكن يعلم أحد ساعة مجيئه، فإنّ حضرة الباب أكّد لعدد من أتباعه بأنّهم سيعيشون ليقابلوه ويخدموه. وقد رفعت الإشارات الخفيّة لـ سنة التسع
والسنة التاسعة عشر
درجة التوقّع داخل الجامعة البابيّة. أكّد حضرة الباب أنّه لم يكن بمقدور أيّ شخص أن يدّعي أنّه من يظهره الله
، وتحقّق ذلك.
يجب أن ننظر إلى جهة أخرى لنتعرّف على التأثير الفوريّ لأحكام حضرة الباب. فالممارسة الإسلاميّة، خاصّة في هيئة الشريعة
أصبحت مسألة اتّباع أحكام وتعاليم مفصّلة بشكلٍ موسّع، وتمّ شرحها من قِبل أجيال من المجتهدين، وتمّ تطبيقها بشدّة. كانت الشريعة أو القانون الكَنسي، عمليًا، تجسيد لسلطة رجال الدّين ليس فقط على جموع الناس ولكن حتّى على الحاكم نفسه. فقد احتوت كلّ ما تحتاجه البشريّة أو يمكن أن تستخدمه. كانت الهداية الإلهيّة متوقّفة إلى يوم السّاعة عندما تنفطر السماء، وتتفتت الجبال، وتتفجر البحار، ويُنفخ في الصور ويقوم الأموات من أجداثهم، ويظهر الله والملائكة من حوله صفًا صفًا
.
بالنسبة لأولئك الّذين آمنوا بحضرة الباب...فقد نطق الله مجدّدًا. ومواجهاً مؤسّسة دينيّة عتيقة زعمت أنّها تنطق بإسم الرسول، أكّد حضرة الباب نداءه بأن مارس كامل السُلطات والصلاحيات الّتي اختصّها الإسلام بالرّسل. وكانت هذه الخطوة الجريئة، أكثر من أيّة ممارسة أخرى في رسالته، هي الّتي كلّفته حياته، ولكن النتيجة كانت تحرير عقول وقلوب أتباعه بشكلٍ لم يكن بالإمكان تحقيقه بأيّ شكلٍ آخر. وكانت حقيقة أنّ العديد من أحكام وتعاليمالبيانستُنسَخ قريبًا أو يتمّ تغييرها بدرجة كبيرة بفِعل تلك التعاليم الّتي سيأتي بها حضرة بهاءالله في الكتاب الأقدس12، في سياق التاريخ وفي أعين جموع البابيّين الّذين سيؤمنون بالظهور الجديد، ذات أهميّة بسيطة عند تحقيق هدف حضرة الباب.
في هذا السياق، من المُلفت ملاحظة الطريقة التي تعامل بها حضرة الباب مع المسائل الّتي لم تكن لها علاقة برسالته، ولكن لو لم يتمّ التطرّق إليها، كان يمكن أن تصبح عائقًا كبيرًا أمام عمله بسبب أنّها كانت متجذّرة بعُمق وقوّة في الوعي الديني الإسلامي. على سبيل المثال، مفهوم الجهاد
هو أمرٌ منزَل في القرآن الكريم كفرض على كلّ ذكر مسلم سليم جسديًا، وكان لممارسة هذا الفرض مكانة مرموقة في المجتمعات الإسلاميّة عبر العصور. في قيّوم الأسماء
، لم يشأ حضرة الباب أن يُدخل شكل من أشكال الجهاد كأحد مزايا المقام الّذي ادّعاه لنفسه. ولكنّه جعل أيّ اشتراك في الجهاد منوطًا كليًا بموافقته، وهي موافقة لم يمنحها. لاحقًا، وبالرغم من أنّ البيان يمثّل الشكل الرسمي لأحكام الظهور الجديد، فإنّه يشير سريعاً للموضوع الّذي بدا لفترات طويلة أساسيًا لتطبيق إرادة الله. وبالتالي، كان لأتباع حضرة الباب، أثناء تجوالهم في بلاد فارس لنشر الدّين الجديد، الحريّة للدّفاع عن أنفسهم عند مواجهة أيّ هجوم، ولكن لم يكن من معتقداتهم واجب الجهاد، بشنّ الحرب على الآخرين بهدف تغيير دينهم.13
في سياق التاريخ، من الواضح أن المقصد من هذه الأحكام الشاقّة والقاسية كان إحداث تحوّل روحاني، وقد نجح ذلك بقوّة. مستشرفًا بوضوح مسار الرسالة التي حمل مسؤوليتها، حضّر حضرة الباب أتباعه بواسطة مجموعة متكاملة من الأدعية والمناجاة، وأحكام لتهذيب النفس وتعزيز حياة الجامعة، لمواجهة العواقب الحتميّة لالتزامهم برسالته.
تتجاوز التعاليم التي يتضمنها كتاب البيان
كثيرًا تلك المقاصد المباشرة. وبالنتيجة، عندما حمل حضرة بهاءالله مسؤوليّة تأسيس أسُس أخلاقيّة وروحانيّة للظهور الجديد، بنى مباشرةً على تعاليم وكتابات حضرة الباب. فبينما لا يظهر الكتاب الأقدس، أمّ الكتب
للدّورة البهائيّة، على شكل قواعد منهجيّة، فهو يقدّم للبهائيّين الأحكام الرئيسيّة لدينهم. فالهدايات المتعلّقة بالسلوك الفردي أو الممارسة الاجتماعيّة واردة في إطار الآيات الّتي تدعو القارئ لمفهوم جديد للطبيعة البشريّة ومغزاها. أحد الباحثين الرّوس من القرن التاسع عشر والّذي قام بأوّل محاولة لترجمة الكتاب، شبّه قلم حضرة بهاءالله في كتابته للكتاب الأقدس بطائر، آنًا يحلّق فوق قمم السّماء، وآنًا يهبط ملامسًا أبسط مسائل الاحتياجات اليوميّة.
بعيدًا عن أحكامالبيان، فإنّ كتابات حضرة الباب تحتوي على أسس مفاهيم ورؤى روحانيّة عملت على تحريك المشروع البهائي العالمي. ابتداءً من المعتقد المقبول من كافّة المسلمين بأنّ الله هو واحد أحد عليٌ أعلى، فقد اخترق حضرة الباب بقوّة فوضى المذاهب المتضاربة والتكهّنات الباطنيّة الّتي تراكمت على مرّ أكثر من 12 قرن من التاريخ الإسلامي. فالله ليس واحد أحد فقط، بل هو غيب منيع على البشريّة وسيكون كذلك دائمًا. لا يوجد اتّصال مباشر ما بين الخالق وجميع مخلوقاته.
الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة الإلهيّة الكامنة ما وراء الوجود هو من خلال تتابع الرسُل الّذين يرسلهم الله. فالله يُظهر
نفسه للبشريّة بهذه الطريقة، وفي شخص مظاهره يمكن للوعي الإنساني أن يدرك كلاً من مشيئة الله وصفاته. وما وصفته النصوص المقدّسة بـ لقاء الله
، ومعرفة الله
، وعبادة الله
، وخدمة الله
، يشير إلى استجابة الروح عندما تقبل الظهور الجديد. إنّ مجيء رسول الله هو بحدّ ذاته يوم الحساب
.
متجاوزًا المفهوم الإسلامي التقليدي لتتابع الرسل الّذي يختم الرسالات السماويّة برسالة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، يعلن حضرة الباب أنّ الوحي الإلهي ظاهرة مستمرّة لا نهاية لها وهدفها التطوير والتهذيب التدريجي للبشريّة. ومع قبول الوعي الإنساني واستجابته لكلّ رسول إلهي، تتطوّر بثبات القابليّات الروحانيّة والأخلاقيّة والفكريّة الكامنة فيه، وبذلك يتم تمهيد الطريق لمعرفة المظهر الإلهي التالي.
المظاهر الإلهية، بمن فيهم إبراهيم، وموسى، وعيس، ومحمّد، هم حقيقة واحدة في الأساس، بالرغم من اختلاف مظاهرهم الجسديّة، وتلك الجوانب من تعاليمهم المتعلّقة بالتطوّر الدائم للمجتمع الإنساني. كلٌ منهم لديه مقامان
: المقام البشري، والمقام الإلهي. وكلٌ منهم يقدّم برهانان على رسالته: شخصه من جهة، والحقائق الّتي يُظهرها ويعلّمها من جهة أخرى. كلّ واحدة من هذه الدلائل كافية لأيّ نفسٍ باحثة بصِدق، فالمسألة تتمثّل بالنيّة الصافية، وهذه السجيّة الإنسانية لها مكانة خاصّة في كتابات حضرة الباب. فعن طريق وحدة الأديان، والعقل والسّلوك، يمكن لكلّ شخص أن يصل، بفضل التأييدات الإلهيّة، إلى مرحلة من التطوّر يطلب فيها للآخرين ذات الأمور الّتي يتمنّاها لنفسه.
لقد وصف حضرة الباب تعاليمه على أنّها فتح الرحيق المختوم
المشار إليه في كلّ من القرآن الكريم والعهد الجديد. لا يقدّم مفهوم يوم الله
تصوّراً لنهاية العالم، بل عن تجدّده الدّائم. ستبقى الأرض موجودة، وكذلك الجنس البشري، الّذي ستتكشّف قابليّاته تدريجيّاً بالإستجابة للدفقات الإلهيّة المتتابعة. إنّ جميع البشر متساوون بنظر الخالق، وقد تقدّم الجنس البشري الآن إلى نقطة حيث، بالظهور المرتقب لمن يظهره الله، لا يكون هناك حاجة ولا مكان لطبقة ذات حظوة من رجال الدّين. يشجَّع المؤمنون على رؤية المقاصد المجازيّة للنصوص الّتي كانت تُستخدم في فترة من الفترات كمرجع للأحداث الغيبيّة وغير الطبيعيّة. فكما أنّ الله واحد أحد، فكذلك عالم الوجود هو كلٌّ عضوي يتحرّك بالمشيئة الإلهيّة.
تظهر تعاليم حضرة الباب، مثل أحكام كتاب البيان، ليس على شكل عرض منظَّم، ولكنّها ترِد ضمن مجموعة واسعة من المسائل الفقهيّة اللاهوتيّة والباطنيّة الواردة في صفحات كتاباته الغزيرة. وفي كتابات حضرة بهاءالله، كما بالنسبة لأحكام كتاب البيان
، تمّ تنظيم هذه الحقائق والأحكام وترتيبها في منظومة معتقدات موحَّدة ومتّسقة. إنّ الموضوع يتجاوز مدى هذه المقالة المختصرة، ولكن يمكن للقارئ أن يجد في الكتاب الفقهيّ الكبير لحضرة بهاءالله كتاب الإيقان
، ليس فقط أصداءً لكتابات حضرة الباب، ولكن عرضًا متّسقاً لمفاهيمها الرئيسيّة.
ختامًا، فإنّ ميزة خاصّة لكتابات حضرة الباب، الّتي برزت كعاملٍ هامّ في المعتقد البهائي وتاريخه هي المهمّة الّتي استشرفها حضرته لمواطني الغرب وإعجابه بالصِفات الّتي تؤهّلهم لها. وكان هذا أيضًا على تناقض كبير مع الازدراء المُعلَن لـ الفرنجي
والفكر التكفيري
الّذي كان سائدًا في العالم الإسلامي في ذلك الوقت. على سبيل المثال، فإنّ التقدّم العلمي الغربي ممدوح بشكلٍ خاصّ، وكذلك التفكير الموضوعي والاهتمام بالنظافة الّذي رأى حضرة الباب أنّ الغربيين يتّصفون بها عمومًا. إنّ تقدير حضرته لا يتعلّق بالعموميّات فقط ولكنّه يلامس حتّى المسائل البسيطة مثل الأنظمة البريديّة ووسائل الطباعة.
لقد عبّر حضرة الباب لأحد الأطبّاء البريطانيّين الّذي عالج حضرته من جراح أصيب بها أثناء التحقيق معه في تبريز، عن ثقته بأنّ الغربيّين أيضًا سيؤمنون، في الوقت المحدّد، بحقيقة دعوته.
تمّ التطرّق إلى هذه الفكرة بقوّة في كتابات حضرة بهاءالله. فقد دعت سلسلة من الألواح حكّام أوروبيين مثل الملكة فكتوريا، ونابليون الثالث، والقيصر ويلهلم الأول، وألكسندر الثاني، لتفحّصأمر اللهبتجرّد. وقد امتدح حضرته ملكة بريطانيا بسبب إجراءات حكومتها في سبيل القضاء على الرقّ في أنحاء الإمبراطوريّة وتأسيس حكومة دستوريّة. وربّما أكثر موضوع استثنائي تضمّنته هذه الرسائل كان الدعوة، أو فعليًا الأمر،لحكّام أمريكا ورؤساء الجمهور فيهابأنيجبروا...الكسير بأيادي العدلوكسّروا الصحيح الظالم بسياط أوامر ربّكم الآمر الحكيم.14
متوقعًا المساهمة العظيمة الّتي من المقدّر لبلاد الغرب ومواطنيها أن يحدثوها في تأسيس مؤسّسات النظام العالمي، كتب حضرة بهاءالله متفضّلاً:إنّه أشرق من أفق الشرق وظهرت في الغرب آثاره...تفكّروا فيه يا قوم...15
إلى حضرة عبدالبهاء انتقلت مسؤوليّة وضع أسُس هذا المَعلَم المميّز لرسالتي حضرة الباب وحضرة بهاءالله. ومع زيارته لكلٍ من غرب أوروبا وأمريكا الشماليّة في الفترة 1911 إلى 1913، جمع حضرته بين المديح الشديد للإنجازات الماديّة للغرب والنداء الحارّ لأن يتمّ توفيق ذلك مع أسُس المدنيّة الروحانيّة
.
خلال سنوات الحرب العالميّة الأولى، وبعد عودة حضرته إلى الأرض الأقدس، وجّه حضرة عبدالبهاء مجموعة من الرسائل إلى جامعة أتباع حضرة بهاءالله الصغيرة في الولايات المتحدة الأمريكيّة وكندا، يدعوهم فيها للنهوض وحمل رسالة حضرة بهاءالله إلى أقصى بقاع الأرض. وفَور أن أتاحت الظروف الدّوليّة، بدأ هؤلاء البهائيّين في الاستجابة. ومنذ ذلك الوقت تمّ اتّباع هذه التجربة من قِبل العديد من الجامعات البهائيّة حول العالم، الّتي تزايد عددها في العقود اللاحقة.
كما أوكل حضرة عبدالبهاء إلى البهائيّين في أمريكا الشماليّة مهمّة وضع أسُس مؤسّسات منتَخبَة بشكلٍ ديمقراطي وضع حضرة بهاءالله تصوّرًا لها لإدارة شؤون الجامعة البهائيّة. إنّ كامل هيكل صناعة القرار للنظام الإداري الحالي لأمر الله على المستويات المحليّة، والوطنيّة، والعالميّة، تعود في أصولها إلى تلك المحافل الروحانيّة التشاوريّة البسيطة الّتي شكّلها المؤمنون الأمريكيّون والكنديّون.
يرى البهائيّون نمطًا موازيًا للاستجابة للأمر الإلهي، ولو أنّه غير مُعتَرف به، في تزايد درجة القيادة الّتي مارستها الشعوب الغربيّة خلال القرن الحالي في جهود تحقيق السلام العالمي. وهذا صحيحٌ تمامًا فيما يتعلّق بمساعي تدشين نظام عالميّ دوليّ. ولرؤيته الخاصّة في هذا المجال، إضافة إلى شجاعته الفريدة الّتي تطلّبَها هذا الجهد، فاز خالد الذكر وودرو ويلسون
Woodrow Wilson في كتابات وليّ أمر الدّين البهائي بمرتبة شرف دائمة.
يدرك البهائيّون أيضًا أنّ حكومات دول مثل أمريكا الشماليّة، وكندا، وأستراليا، ودول في أوروبا قادت المساعي في ميدان حقوق الإنسان. وقد شعرت الجامعة البهائيّة بشكلٍ مباشر بفوائد هذا الاهتمام في التدخلاّت الناجحة الّتي اتُّخذت بالنيابة عن أفرادها في إيران أثناء الاضطهادات المتكرّرة في ظلّ النظامَين الامبراطوري البهلوي والجمهوري الإسلامي.
لا يجب أن يُفهّم ممّا ذُكر أنّ هناك إعجاباً مُطلقاً بالثقافة الأوروبيّة أو الأمريكيّة من قِبل حضرة الباب أو حضرة بهاءالله، أو موافقة على الأسس الفكريّة والعقائديّة اللّتان ترتكزان عليها، بل بعيداً عن ذلك. فحضرة بهاءالله يحذّر بلهجة متشائمة من المعاناة والدّمار اللذان سيصيبان الجنس البشري بأكمله إذا ما استمرّت الحضارة الغربيّة في مسارها المُفرِط. وقد دعا حضرة عبدالبهاء مستمعيه بلهجة قويّة وحزينة لأن يحرّروا أنفسهم، حيث الوقت ما زال متاحًا، من التعصّبات العِرقيّة والوطنيّة، والانشغالات الماديّة، الّتي كما تفضّل، تهدّد مخاطرها الغير مُدرَكة مستقبل شعوبهم ومستقبل البشريّة جمعاء.
اليوم، وبعد قرن ونصف من الزمان بعد إعلان دعوة حضرة الباب، وجدت حياته وكلماته تعبيرًا لها في جامعة عالميّة تضمّ أفرادًا من كلّ الخلفيّات في العالم. إنّ أول فعل يقوم به معظم الحجّاج البهائيين لدى وصولهم إلى المركز العالمي لدينهم هو السير في الطريق المزدان بالورود والمؤدّي إلى المقام الرائع الّذي يحتضن الرُفات الأبديّة لحضرة الباب، والسجود لدى عتبة مرقده. إنّهم يؤمنون بقوّة بأنّه، في المستقبل، سيصعد السلاطين الحجّاج
بجلال ووقار دَرَجات المصاطب الرائعة صاعدين من أسفل جبل الرّب
إلى مدخل المقام، ويضعوا تيجان سلطانهم على نفس العتبة. في البلاد الّتي يأتي منها الحجّاج، هناك العديد من الأطفال اليوم من مختلف الخلفيّات وينطقون بكلّ اللغات يحملون أسماء رُفقاء حضرة الباب الّذين استشهدوا- الطاهرة، والقدّوس، وحسين، وزينب، ووحيد، وأنيس- تمامًا مثلما بدأ الأطفال في أنحاء الإمبراطوريّة الرومانيّة قبل 2000 سنة بحمل الأسماء اليهوديّة غير المعهودة لتلاميذ السّيد المسيح
يحمل اختيار حضرة بهاءالله للمرقد الدائم لرفات مبشّره، الّذي أُحضر بصعوبة بالغة من بلاد فارس، بحدّ ذاته دلالة عظيمة للعالم البهائي. كانت دماء الشهداء عبر التاريخ هي بذور أمرا لله
. وفي العصر الّذي يشهد اتّحادًا تدريجيّا للجنس البشري، أصبحت دماء الشهداء البابيّين بذورًا ليس فقط للإيمان الشخصي، بل أيضًا للمؤسّسات الإداريّة، كما تفضّل شوقي أفندي، هي نواة ونموذج
للنظام العالمي الّذي وضع أسُسه حضرة بهاءالله. وهذه العلاقة يُرمَز لها بالمكانة الرّفيعة الّتي يحتلّها مقام حضرة الباب في التطوّرات المتنامية للمركز الإداري للدّين البهائي على جبل الكرمل.
قلّما يوجَد اليوم بين جموع الحجّاج البهائيين الّذين يدخلون إلى هذه الأماكن المهيبة والعظيمة من لا يلتفت ذهنه إلى الكلمات المعروفة الّتي ودّع بها حضرة الباب قبل 150 سنة مجموعة من أتباعه الأوائل، الّذين كان جميعهم محرومون من أيّة سُلطة أو مال وكان مصير معظمهم المحتوم، مثل حضرته، هو الاستشهاد:
وأما سرّ ذلك اليوم الآتي فمستور لا ينكشف الآن لأن مولود ذلك اليوم الجديد يفوق أعقل وأشرف الناس في هذا الزمان وأصغر عامّي فيه يفوق في العلم والمعرفة أعلم العلماء والفقهاء في هذا العصر. فانتشروا في جميع الجهات وأعدّوا الطريق لمجيئه بأقدام ثابتة وقلوب طاهرة ولا تنظروا إلى ضعفكم واستكانتكم بل اجعلوا أنظاركم دائمًا متوجهة إلى القوة القاهرة من ربكم وإلهكم القدير...إذاً قوموا على إسم الله وضعوا ثقتكم فيه وتوكلوا عليه وأيقنوا بالنصر والفوز في النهاية.)16
البابيّفي هجمات رجال الدّين الإسلامي على الدّين البهائي على مرّ السنوات روح العَداء الّذي بثّه المعارضون الأصليّون في القرن التاسع عشر. ↑
خطاب المدرسة اللاهوتيّة، مختارات من كتابات إيميرسون، 1960، ص115-116 ↑